يعتبر ظهور الشعر الأبيض أو الشيب عملية طبيعية مرتبطة بالتقدم في العمر، وهي ناتجة عن توقف الخلايا الصبغية في بصيلات الشعر (الخلايا الميلانينية) عن إنتاج صبغة الميلانين المسؤولة عن لون الشعر. ومع ذلك، فإن ظهور الشعر الأبيض في سن مبكرة (الشيب المبكر) يمكن أن يكون مؤشراً على وجود أسباب صحية وجينية او وراثية رئيسية تساهم في تسريع هذه العملية الفسيولوجية، وتتجاوز مجرد عامل الزمن، مما يستدعي الانتباه والبحث عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة.
العوامل الجينية والإجهاد التأكسدي كمحركات أساسية
تعد العوامل الوراثية السبب الأول والأكثر شيوعاً لظهور الشعر الأبيض، خصوصاً في سن مبكرة. إذا كان أحد الوالدين أو الأجداد قد عانى من الشيب المبكر، فإن احتمالية ظهور الشيب في الأبناء ترتفع بشكل كبير. هذا يشير إلى أن الجينات هي التي تحدد وتبرمج توقيت توقف الخلايا الصبغية عن العمل. وإلى جانب الجينات، يلعب الإجهاد التأكسدي والعوامل التي تزيد من اضعاف قدرات الجسم دوراً مهماً في تدمير الخلايا الصبغية. يحدث الإجهاد التأكسدي نتيجة اختلال التوازن بين الجذور الحرة الضارة ومضادات الأكسدة الواقية في الجسم، فعندما تزداد الجذور الحرة، فإنها تهاجم الخلايا الميلانينية في بصيلات الشعر وتتلفها، مما يؤدي إلى تسريع فقدان لون الشعر وظهور اللون الأبيض. يمكن لعوامل نمط الحياة مثل التدخين الاكتئاب المفرط والتعرض للتلوث و النظام الغذائي السيء و الغير المتوازن أن يزيد من هذا الإجهاد التأكسدي بشكل ملحوظ.
نقص الفيتامينات والمعادن الضرورية لصحة الشعر
يؤثر النقص الحاد في بعض الفيتامينات والمعادن الأساسية على إنتاج صبغة الميلانين في الشعر، مما يسرع من عملية ظهور الشيب. من أبرز هذه العناصر هو فيتامين ب12 (الكوبالامين)، حيث يعد نقصه أحد الأسباب الأكثر شيوعاً للشيب المبكر، لارتباطه الوثيق بصحة الدم والخلايا العصبية وإنتاج الحمض النووي. كما أن نقص فيتامين د وبعض المعادن النادرة مثل النحاس والحديد والزنك يمكن أن يكون له تأثير مباشر. يلعب النحاس دوراً حاسماً في إنتاج الميلانين، ونقصه يعيق عمل الإنزيمات المسؤولة عن التصبغ. لذا، فإن سوء التغذية أو وجود مشكلات في امتصاص العناصر الغذائية قد تكون سبباً صحياً مباشراً يستوجب التصحيح من خلال نظام غذائي متوازن أو المكملات الغذائية المناسبة بعد استشارة طبية.
الاضطرابات الهرمونية وأمراض الغدة الدرقية
تعتبر التغيرات الهرمونية غير الطبيعية من الأسباب الصحية التي يمكن أن تزيد من ظهور الشعر الأبيض. وفي هذا السياق، تبرز اضطرابات الغدة الدرقية كعامل مؤثر، سواء كانت حالة قصور الغدة الدرقية (Hypothyroidism) أو فرط نشاط الغدة الدرقية (Hyperthyroidism). تؤدي هذه الاضطرابات الهرمونية إلى خلل في مستويات الهرمونات المسؤولة عن تنظيم وظائف الجسم المختلفة، بما في ذلك الدورة الطبيعية لنمو الشعر وتصبغه، مما قد يؤدي إلى تقليل إنتاج الميلانين وظهور الشيب المبكر. علاج هذا الخلل الهرموني، تحت إشراف طبي، قد يساعد في بعض الحالات على إبطاء أو حتى عكس جزء من عملية فقدان اللون في الشعر الناتج عن هذا السبب تحديداً.
دور الأمراض المناعية الذاتية الأخرى
ترتبط بعض الأمراض المناعية الذاتية أيضاً بزيادة خطر ظهور الشعر الأبيض. في هذه الأمراض، يهاجم الجهاز المناعي للجسم عن طريق الخطأ الخلايا السليمة، ومن ضمنها الخلايا الصبغية (الخلايا الميلانينية) في بصيلات الشعر. من الأمثلة الشائعة على ذلك البهاق (Vitiligo)، وهو مرض مناعي ذاتي يؤدي إلى ظهور بقع بيضاء على الجلد والشعر نتيجة تدمير الخلايا الصبغية. كما أن بعض الأمراض المناعية الذاتية الأخرى مثل الثعلبة البقعية (Alopecia Areata) أو فقر الدم (Pقر الدم الناجم عن نقص فيتامين ب12) قد تترافق مع الشيب المبكر. يجب التنويه إلى أن الشيب الناجم عن هذه الأمراض غالباً ما يكون جزءاً من صورة سريرية أكبر تستدعي التشخيص والعلاج المتخصص للمرض المناعي الأساسي للسيطرة على تطوره.
