ماذا يحدث للانسان عند عدم التعرض لأشعة ضوء النهار بشكل كافي


 تعد أشعة ضوء النهار، التي غالباً ما نأخذ وجودها كأمر مسلم به، عنصراً حيوياً لا غنى عنه لصحة الإنسان، شأنه شأن التغذية والماء. إن الابتعاد عن هذا المصدر الطبيعي للطاقة، سواء بسبب نمط الحياة العصري الذي يغلب عليه الجلوس في الأماكن المغلقة أو ظروف العمل الخاصة، لا يترك آثاره على المزاج فحسب، بل يمتد ليشمل أضراراً جسدية ونفسية عميقة ومترابطة. يُشكل ضوء الشمس الطبيعي إشارة قوية للجسم لتنظيم العديد من العمليات البيولوجية، بدءاً من إنتاج الهرمونات وحتى دعم جهاز المناعة. وعندما يُحجب هذا الضوء الكافي عن الجسم، تبدأ منظومة الاتزان الداخلي في التعطل، ما يمهد لظهور مجموعة من المشكلات الصحية والنفسية التي قد تتفاقم مع مرور الوقت، مما يستدعي فهم هذه الأضرار والعمل على معالجتها.


الاضطرابات البيولوجية ونقص فيتامين د

يُعد أبرز الأضرار الصحية لعدم التعرض الكافي لضوء النهار هو نقص فيتامين د، وهو الفيتامين المعروف باسم "فيتامين الشمس". الجلد ينتج هذا الفيتامين الحيوي عند التعرض للأشعة فوق البنفسجية من النوع ب (UVB). يلعب فيتامين د دوراً مركزياً في امتصاص الكالسيوم والفوسفور، وبالتالي فإن نقصه يضعف صحة العظام، ويزيد من خطر الإصابة بهشاشة العظام والكسور، خاصة لدى كبار السن. يتجاوز دور فيتامين د صحة العظام ليشمل دعم جهاز المناعة؛ حيث أظهرت الدراسات أن المستويات المنخفضة منه قد تجعل الجسم أكثر عرضة للعدوى والأمراض المناعية المزمنة. بالإضافة إلى ذلك، يرتبط ضوء النهار بتنظيم إيقاع الساعة البيولوجية للجسم، وعندما تقل مدة التعرض له، يضطرب هذا الإيقاع، ما يؤدي إلى صعوبات في النوم والأرق، ويؤثر سلباً على جودة الراحة والاستشفاء.


التأثيرات النفسية واضطرابات المزاج

على الصعيد النفسي، يُعتبر ضوء النهار منظمًا طبيعيًا وقويًا للمزاج وتقليل التوتر  . يرتبط التعرض القليل للشمس بانخفاض مستويات السيروتونين، وهو ناقل عصبي يُعرف باسم "هرمون السعادة"، والذي يلعب دوراً هاماً في تنظيم المزاج، والشهية، والنوم. يؤدي انخفاض السيروتونين إلى زيادة خطر الإصابة بـاضطرابات المزاج، وعلى رأسها الاكتئاب، خاصة ما يُعرف بـالاضطراب لنشاط الموسمي (Seasonal Affective Disorder - SAD) الذي ينتشر في فصول الشتاء أو في المناطق التي تقل فيها ساعات سطوع الشمس. هذا النقص في الإضاءة الطبيعية يمكن أن يسبب أيضاً زيادة في مستويات القلق والتوتر، حيث يفتقد الدماغ للإشارة التي تساعده على التمييز بين فترات النشاط والراحة، مما يجعل الفرد يشعر بـالخمول وفقدان الطاقة وضعف عام في التركيز والإنتاجية.


اضطراب الإيقاع اليومي وضعف التركيز

يعمل ضوء النهار كـإشارة بيئية رئيسية لضبط ساعة الجسم الداخلية (الإيقاع اليومي). عند التعرض لضوء الشمس، يتوقف الجسم عن إفراز الميلاتونين (هرمون النوم) ويبدأ في إنتاج هرمونات وعناصر كيميائية مرتبطة باليقظة والنشاط. عدم الحصول على ضوء كافٍ خلال ساعات الصباح والظهيرة يربك هذا النظام، مما يجعل الجسم يستمر في إفراز الميلاتونين أو يتأخر في إيقافه، وبالتالي يشعر الفرد بـالنعاس والخمول خلال النهار. يؤدي هذا الارتباك في الإيقاع اليومي إلى ضعف ملحوظ في الوظائف الإدراكية، مثل التركيز، وسرعة رد الفعل، والقدرة على اتخاذ القرارات. هذا التأثير لا يقتصر على مجرد الشعور بالكسل، بل يقلل من الكفاءة في العمل أو الدراسة ويزيد من احتمالية ارتكاب الأخطاء.


المخاطر طويلة الأمد على الرؤية والصحة الأيضية

لا يقتصر تأثير ضوء النهار على الصحة النفسية والعظام فحسب، بل يمتد إلى جوانب أخرى حيوية، منها صحة العينين. التعرض المنتظم لضوء النهار، خاصة في مرحلة الطفولة والمراهقة، له دور وقائي في الحد من تطور قصر النظر. ويُعتقد أن الضوء الخارجي يساعد على إفراز مادة الدوبامين في شبكية العين، مما يمنع الاستطالة المفرطة لمقلة العين التي تسبب قصر النظر. علاوة على ذلك، تشير الأبحاث إلى أن التعرض غير الكافي للشمس قد يؤثر سلباً على الصحة الأيضية؛ حيث يرتبط بانخفاض تحمل الغلوكوز وزيادة خطر الإصابة بمقاومة الأنسولين والسكري من النوع الثاني، خاصة بسبب العلاقة المعقدة بين فيتامين د والالتهاب ووظيفة الأنسولين. بالتالي، فإن الحرمان من ضوء النهار هو عامل خطر صامت ومزمن يؤثر على كل نظام حيوي في الجسم، مما يجعل الخروج من الأماكن المغلقة والمشي في الهواء الطلق ضرورة صحية لا رفاهية.

إرسال تعليق

Please Select Embedded Mode To Show The Comment System.*

أحدث أقدم